من العبودية إلى العدالة التصحيحية.. منظمات حقوق الإنسان تدعو لتوحيد الجهود العالمية ضد العنصرية
من العبودية إلى العدالة التصحيحية.. منظمات حقوق الإنسان تدعو لتوحيد الجهود العالمية ضد العنصرية
العنصرية، بصورها المتعددة، لا تزال واحدة من أعمق الأزمات التي تهدد النسيج الإنساني العالمي في القرن الحادي والعشرين. وفي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن الحقبة الاستعمارية والتمييز العنصري الصريح باتا من الماضي، تكشف تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان أن التمييز العرقي ما زال يطل برأسه في مؤسسات الدولة، في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى في أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وفق تقرير نشره موقع الأمم المتحدة في نسخته الإنجليزية جاءت الدعوة الأخيرة التي أطلقها منتدى الأمم المتحدة المعني بأفراد من أصول إفريقية لتوحيد الجهود أكثر من أي وقت مضى، لتؤكد أن العالم لم يصل بعد إلى مرحلة العدالة الحقيقية، وأن تفكيك أنظمة التمييز يحتاج إلى التزام جماعي يتجاوز الشعارات.
التمييز العنصري
وفق تقرير رئيس المنتدى الأممي مارتن كيماني أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف، فإن أفرادًا من أصول إفريقية ما زالوا يعانون أشكالًا متنوعة من التهميش، بدءًا من حرمانهم من فرص التعليم والعمل المتكافئ، وصولًا إلى العنف البنيوي في أجهزة الشرطة والعدالة.
وتشير الإحصاءات إلى أن السود في الولايات المتحدة مثلًا يشكلون نحو 13 بالمئة من السكان، لكن نسبتهم في السجون تتجاوز 33 بالمئة وفق بيانات وزارة العدل الأمريكية لعام 2023، في حين تسجل أوروبا معدلات أعلى للبطالة بين المهاجرين الأفارقة مقارنة بالمعدل العام، وهو ما أكدته المفوضية الأوروبية في تقريرها عن المساواة لعام 2022، وهذه الأرقام تبرز أن العنصرية لم تعد قضية أفراد بل قضية أنظمة اجتماعية وقانونية واقتصادية متجذرة.
الدعوة لتوحيد الجهود
تزامن الحوار مع بداية العقد الدولي الثاني للأشخاص المنحدرين من أصول إفريقية، والذي يعد فرصة لإعادة ترتيب الأولويات في ثلاثة محاور أساسية: الاعتراف بالعنصرية النظامية، توفير العدالة التصحيحية، وضمان التنمية المتساوية. العدالة التصحيحية، كما حددتها الأمم المتحدة، لا تقتصر على الاعتراف بالانتهاكات الماضية، بل تشمل التعويضات المادية والمعنوية، ورد الاعتبار، وضمانات عدم التكرار. وشدد كل من منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش في بيانات متزامنة على أن هذه الإجراءات ليست رفاهية أخلاقية، بل ضرورة قانونية بموجب الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965 التي صادقت عليها غالبية دول العالم.
من بين أبرز القضايا التي ناقشها المنتدى الأممي، مسألة الذكاء الاصطناعي والتحيزات المدمجة فيه، حيث أثبتت دراسات أكاديمية عدة أن خوارزميات التعرف على الوجه تُخطئ بنسبة مضاعفة في تحديد ملامح الأشخاص ذوي البشرة الداكنة مقارنة بغيرهم. كما أظهر تقرير لمنظمة العفو الدولية في 2023 أن أنظمة المراقبة الأمنية في بعض المدن الأوروبية استهدفت أحياءً ذات غالبية مهاجرة بشكل غير متناسب، وتعكس هذه الوقائع أن التكنولوجيا ليست محايدة، بل يمكن أن تعيد إنتاج التمييز القائم إذا لم تُصمم وتخضع لرقابة أخلاقية وحقوقية دقيقة.
النساء في قلب المعادلة
أحد الأبعاد التي سلطت عليها الأمم المتحدة الضوء هو وضع النساء والفتيات من أصول إفريقية اللواتي يواجهن أشكالًا مركبة من التمييز، حيث تتقاطع العنصرية مع التمييز على أساس الجنس، وأشار تقرير المنتدى إلى أن جذور هذا التمييز تعود إلى إرث العبودية الذي همش النساء وأضعف فرصهن في التعليم والعمل والتمثيل السياسي، وتشير أرقام البنك الدولي إلى أن النساء ذوات الأصول الإفريقية في أمريكا اللاتينية يكسبن في المتوسط أقل بنسبة 30 بالمئة من نظيراتهن غير المنحدرات من أصول إفريقية، ما يترجم فجوة صارخة في العدالة الاقتصادية.
المنتدى الأممي لم يغفل الأزمة المتصاعدة في هايتي، معتبرًا أنها امتداد تاريخي لجرائم العبودية والاستعمار. فهايتي، أول دولة تنجح في تحرير نفسها من العبودية عام 1804، أُجبرت لاحقًا على دفع 150 مليون فرنك تعويضات لفرنسا، وهو ما وصفه خبراء الاقتصاد بأنه "دين الاستقلال" الذي قيد التنمية لعقود طويلة، واليوم، مع تصاعد العنف والفقر، يرى المنتدى أن الأزمة لا يمكن معالجتها بمعزل عن جذورها التاريخية، ويفتح هذا الطرح نقاشًا عالميًا حول مسؤولية القوى الاستعمارية السابقة في تعويض الشعوب المتضررة وضمان إعادة الحقوق.
ردود الفعل الحقوقية والدولية
هيومن رايتس ووتش دعت إلى آليات دولية أقوى لمراقبة تنفيذ التزامات الدول في مكافحة التمييز، في حين طالبت المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة بتضمين مكافحة العنصرية في خطط التنمية المستدامة لعام 2030، أما على المستوى المحلي، فقد اتخذت بعض الدول خطوات متقدمة، مثل كندا التي أعلنت في 2022 استراتيجية وطنية لمكافحة العنصرية تتضمن تمويل برامج تعليمية وتدريبية، في حين أقرت البرازيل قوانين تُلزم الجامعات بزيادة مقاعد الطلاب من أصول إفريقية، لكن هذه الجهود تبقى متفرقة وتفتقر إلى التنسيق الدولي الشامل الذي تدعو له المنظمات الحقوقية.
رغم وجود اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، التي تلزم الدول باتخاذ خطوات فورية وفعالة، فإن التقارير الدورية للجنة المعنية بالقضاء على التمييز العنصري تكشف باستمرار عن فجوة بين النصوص القانونية والممارسات الفعلية، وهذه الفجوة تتجلى في قضايا استخدام القوة المفرطة ضد الأقليات، أو استمرار الخطاب العنصري في الإعلام والسياسة، أو محدودية تمثيل الأفارقة والمنحدرين من أصل إفريقي في المؤسسات القيادية.
الحاجة إلى إرادة عالمية
الدعوة إلى توحيد الجهود ليست شعارًا، بل تحذير من أن استمرار العنصرية يقوّض الاستقرار والسلم الدوليين، من الاعتراف بالظلم التاريخي إلى معالجة التمييز البنيوي في التعليم والعمل والعدالة، ومن مواجهة الانحيازات الرقمية إلى حماية النساء والفتيات، وتحتاج مكافحة العنصرية إلى إرادة سياسية متينة، وتنسيق عالمي يتجاوز البيانات الرمزية، وفي النهاية، يظل المعيار الحقيقي للعدالة هو قدرة النظام الدولي على ضمان مساواة حقيقية تترجم في حياة يومية أكثر إنصافًا لملايين البشر الذين ما زالوا يعانون من آثار العبودية والتمييز حتى اليوم.
منذ انعقاد المؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية والتمييز العنصري في مدينة ديربان بجنوب إفريقيا عام 2001، دخلت الأمم المتحدة مرحلة جديدة في مسارها لمواجهة التمييز العرقي على المستويين الدولي والمحلي، فقد اعتمد "إعلان وبرنامج عمل ديربان" باعتباره الوثيقة الأكثر شمولًا حتى ذلك الوقت، حيث اعترف رسميًا بالعبودية وتجارة الرقيق باعتبارهما "جرائم ضد الإنسانية"، ودعا إلى اتخاذ تدابير لتعويض المتضررين من هذه الجرائم التاريخية.
مثّل المؤتمر نقطة تحول في جعل قضايا العدالة التصحيحية جزءًا من النقاش الدولي، وأرسى أساسًا للتعاون بين الدول والمنظمات الحقوقية والمجتمع المدني لمناهضة العنصرية. ومنذ ذلك الحين، أنشأت الأمم المتحدة آليات متخصصة مثل الفريق العامل المعني بأشخاص من أصول إفريقية، والمنتدى الدائم الذي يعرض تقارير سنوية عن التمييز الممنهج. كما خصصت الجمعية العامة عقدين دوليين متتاليين للأشخاص المنحدرين من أصول إفريقية (2015-2024، ثم 2025-2034)، في محاولة لتكثيف الجهود وتوسيع نطاق الاعتراف والعدالة والتنمية، ورغم هذا الزخم الأممي، فما زالت تقارير المنظمات الحقوقية تؤكد أن التقدم الفعلي على الأرض محدود، ما يعكس تحديًا مستمرًا في تحويل الالتزامات الدولية إلى إصلاحات مؤسسية وتشريعية ملموسة داخل الدول.